علاماتُ الدَّعوة الحقيقية

 1. الخوف من العالَم ومن أخطارِهِ

لا يتعلّـق الأمر بالجُـبن، أيْ بِالخَوف من التَّعرُّض لِسوءِ المعاملة أو من عدمِ القدرة على عيش حياةٍ مُـرفَّـهة هادئة. بل إنّه يتعلّـق بِمعرفةٍ حقيقيّة بالخبث الروحي والأخلاقي للعالم وبِالصعوبة الجادة للبَـقاء مخلِـصين لشريعةِ الله.

وإن كنّا صادقين:

كم مِن الصعبِ البَـقاء أنقياء في العالم مع كثرة الحوافز والأمثلة والإغراءات الآتية من جميع فئاتِ الأشخاص والصُّحبة والقراءات وظروفِ الحياة!

كيف تكون صالحًا في عالم يكون فيه من الحماقة أن تكون مخلِـصًا، وتَكون فيه مسيحيّـتـُكَ سببًا للنُّـفور، وفيه مِن غيرِ الطّبيعي ألا تكون قذرًا ووحشيًا، وتَكون فريسة سهلة لِـكونِـكَ ذا ضميرٍ؟

صحيح أنه يوجد أيضًا قديسون في العالم، ولكن بأيِّ ثمن؟ ما هي الشخصية التي يجب أن تكون لدى المسيحيين؟ ناهيكَ عن أنهم يَـصِلون مرات عديدة إلى درجة مُعيَّـنة من الخير، ولكن بعد ألفِ سقطةٍ واضطراب ثُـمّ بِـضربةٍ مفاجِـئة من النّعمة.

وهل يمكنني أنا أن أشعر بأنني قويّ؟ فأعتقد أنني أستطيع أن أجتاز هذا المستنقع دون أن أمتلِئَ بالوَحل؟

كثيرٌ من الشباب، عند رؤية هذا المشهدِ البَغيض للعالم، لا يتأثرون. إنهم لا يفكرون أو يتطلعون إلى أن يكونوا صالحين. ومن ناحية أخرى، يشعر آخَـرون بالتأثر والانفعال؛ وهذا يعني أنهم يحملون في قلوبِهم بِـذرة طريقٍ سامٍ ومقدَّس، أيْ طريقِ الدّعوة.

2. الانجذاب إلى الطَّهارة

طوبى لأنقياءِ القلوب لأنهم سيرَوْن الله، بل ومراتٍ عديدة… سوف يلمِسونه في الأسرار الإلهية. أحيانًا يلتقي المَرءُ بشبابٍ هم استثناء، يمُرون بعالم من الخطيئة ويبدو أنهم لا يشعرون بشيء، ويعيشون في بعض المواقفِ الصعبة ويبدو أنّهم عميان، فهم مَليئون بالحياة والقوة ويتحكَّـمون تمامًا في أنفسِهِم.

من الواضح أن هناك عناية إلهية خاصّة بِهم. بينما يسقط آخَـرون في مناسبات أقل خطورة، وهُم… لا بتاتًا، وغالبًا بدون جهدٍ كبير. الله يَحفظهم دون مَساس؛ يَضع ملاكُ الطهارة دِرعَ جَـناحَـيه أمام أعينهم فلا يرَون ولا يسمعون ولا يفهمون؛ هم يَعرفون إنّما لا يَـسقطون.

لِأيِّ سببٍ يحفظُهم الله بِلا مَساس؟ بالتأكيد لسببٍ ما. فالله يعمل دائمًا لِغرضٍ ما. على الأرجح لأنه يريدهم على الطريق الذي لا يمكن السير فيه دون طهارة. بل وأكثر من ذلك إذا كان الشّابّ يعرف وقد رأى ويَـفهم، وربما شعر في ذاته بأشدِّ الأهواء عُـنفًا ولكنه وجد في النعمة، وفي شيءٍ في شخصيته، القوة والطاقة حتى لا يسقط. مِن ثَـمَّ يَـتّـضح أن في هذا إصبعَ الله وأننا أمام شابٍّ مَدعـوٍّ إلى الكمال.

هذا واضحٌ جدًّا أيضًا عندما يكون هناك ما يسميه الزّاهدون «غريزةُ» الطهارة. إنه شيء لا يمكن تعريفُه أو وصفُه، ولكنه مع ذلك يجعل الروح مُـرهَفة الحساسيّة بحيث تتجنَّـب أيَّ ظِـلٍّ من النّجاسة، وربما حتى دون معرفة معنى الطهارة. كما هو الحال مع الجُـفون التي تَـنـغلق غريزيًّا بمُجرّد أن تقترب من العين أيّة بَعوضة غيرِ مناسبة. إنه مِثلُ غريزةِ البتوليّة، مِثلُ نُـفور شبهِ طبيعي من خطيئةِ النَّجاسة.

مِثلُ القديسة مارغريتا ماريا أَلاكوك، التي في سن الثالثة تقوم بِنَذرِ البَـتوليّة، دون أن تعرف أي شيء عما تعنيه. فعلت سانتا روزا دي ليما الشيءَ نفسَه في سن الخامسة. والقديس لويس غُـنزاغا في الثامنة من عمرِه ، وهو في هذا الأمر حَسّاس للغاية لدرجة أنه يَتوقّعُ الإغراء قبلَ حُدوثِهِ. امتياز خاصُّ من الله!

 

عندما توجد مثلُ هذه النعمة السامية في النفس، فمن الواضح جدًّا أنّ الله لا يريدها أن تعيش حياةً مشترَكة بلا معنًى تقريبًا. إنه يريدها بالتأكيد أن تتميز في حياةِ القداسة وأن تفعل أشياءَ عظيمة لمجدِهِ.

 

3. تَـمَـنِّـى الدَّعوة

كم مرةٍ يحدث عندما ترى راهبًا يمر في الشارع، أن تقول في أعماق قلبِكَ « يا لَـسعادتِه! لَـعـلّي أنا أيضًا لَـديَّ دعوة، أيْ نعمة أن أكونَ مثلَه!».

هذه الرغبة بالتأكيد لا تأتي من الشيطان، ولا حتى من طبيعة الشّخص نفسِهِ، لأننا نعلم جميعًا أن حياةَ الرُّهبان هي حياة مليئة بالتضحيات والتَّـنازُلات.

هناك إذًا في ذلك شيءٌ فائق للطبيعة يُعجبُ ويَجذِبُ.

عندما يبدأ الشابُّ في أن تكون لديه هذه الرغبة السِّرية، فقد يُـفـكِّر فِعلًا أنه تحت عملٍ من الله. وعلى الرغم من أنّ هذه الرغبة غير موجودة حاليًّا، إلّا أنها إذا كانت قد وُجدت أحيانًا في الحياة، فلا ينبغي احتقارُها، بل يجب فَحصُها والنّـظر في الأسباب التي تمّ التخلي عنها من أجلِـها. ربما تكون نعمةً من الله وقد ضاعت بسبب سلوكٍ غيرِ لائقٍ، وربما أنّها قد بَـقيَت نائمة فقط ومن ثَــمَّ يمكن أن تستيقظ بالصلاة.

إنها الرغبة التي يُشعَر بها من وقتٍ لآخَر، ويَحـصُـل إحياءٌ لها في الصلاة أو بعد المناولة أو في أيامِ الهدوء أو في الرياضات الروحية. عندما تَتلامسُ النفسُ مع الله، يتكلم الله معها بشكلٍ أوضح.

وفي كثير من الأحيان تصل هذه الرغبة غيرُ المُحَدَّدَة إلى يقينِ الاقتناع: «نعم سأصير راهبًا؛ ما غير ذلك لا يساوي شيئا؛ هذا هو ما يناسبُني…».

هنا يدعو الله بوضوح.

قدَّم لي صبيٌّ يبلغ من العمر خمسة عشر عامًا نفسَه يومًا ما:

4. أبتي، أنا بحاجة للصلاة. صَـلِّ من أجلي!

كانت عيناه مليئة بالدُّموع.

  1. جيد! لكن ما الذي تريد تحقيقَه؟
  2. لديَّ رغبة كبيرة في أن أُصبِح كاهنًا، لكنني أخشى ألا أتوصّل لذلك. أخشى ألّا تكون لديَّ دعوة. لكني أريد الحصول عليها. لا أعرف ما إذا كانت هذه خطيئة، لكنني أريد هذه النعمة حقًّـا!

ابتسمتُ. ما هي العلامة الأكثر وضوحًا التي أرادها هذا الصبي ليتأكد من أن الله يُناديه؟

يقول الأب دُويْـلْ: هل خَطر ببالِـك يومًا أن تسأل نفسَك: كيف لي أن أعرف ما إذا كانت لديَّ دعوة أم لا؟ إنّ هذا لَـيكون كافيًا للحصول على إشارةٍ أكيدة إلى الدّعوة[1].

لكنها قد تكون رغبة عابرة! بكل تأكيد. هذا هو بالضبط السبب في أنه من الضروري تنمية هذه الرغبة، والتّساؤل فيها، ثم الانتظارُ مدّةً من الوقت ليَـتّـضح الأمر. إنّ الأُمنيةٍ التي تستمر مدّةَ ثلاثة أشهر لا يمكن أن تكون أمرًا عابرًا. وإذا استمر الأمر لمدة عام لَدَى شابٍّ في سن الخامسة عشرة، فيمكننا القَول إنه أمرٌ جادٌّ للغاية.

 

5. الوَعي بباطِـل أمورِ الأرض

كلُّ شيء ينتهي، كل شيءٍ باطل! هل يستحق الأمر قَضاء العُمر بأكملِهِ لأجل الحصول على هذه الخيرات البالية التي لا قيمة لها، والتي لا تستطيع إعطاء دقيقةٍ من الفرح الهادئ؟

ويَـظهر هذا الشعور بطريقة خاصّة أثناء أو بعد فترةٍ وجيزة من اللهو. ما أحمق طريقة تفكير البشر وتصرُّفَهُم! كلُّها مُصطنَـعة، كلّها عابِرة!

كنتُ حاضرًا في محادثة بين صـبـيَّـيـن. تحدث أحدُهما عن خُططِه المِهَنِيَّة، وعن الثَّـروات والشُّهرة. والآخَر يقاطعُهُ من حين لآخَر بِـ: «باه! وما قيمة كلِّ هذا؟» بِـمَ يُفيدك كلُّ هذا؟ ماذا ستفعل بتصفيق وتقدير العالم كلِّه؟

لقد تأثرتُ وأردتُ أن أسألَه وحدَه.

– وأنتَ ماذا ستكون؟

– لا أعلم؛ أنا على ثقة من أن الله سيمنحني النعمة لأكون كاهنًا. لا أريد حَماقات مثل صديقي! إنه مَخدوع! لا أفهم ما هي المُتعة التي يَجدها في الرغبة في أن يكون غنيًّا وقويًّا…

ثم أضاف:

6. هذه ليست العَظَمة!

لا تزال حالة إيڤا لاڤاليير حديثةَ العهد. بعد ظُهر ذلك اليوم، جعلوها تخرج إلى المسرح عدّة مرات لتَـلَــقّي تحيّة حارّة. أَظهرَ نَشوة تصفيقِ الجمهور أنهم رأوا فيها المغنية مَلكةَ المسرح. ولكن بعد فترة وجيزة من الأداء، غـيَّــرَت ملابسَها بسرعة وسارت وحيدةً مُتوجِّهةً إلى نهر السِّـين. إنّ رؤيتَها السّارحة، والخُطوة المتردِّدة، والجَـبهة المتجعِّـدة، تُـشير بوضوح إلى أنها كانت تعاني من عاصفةٍ في قلبِها. بالضّبط! وكانت من المرارة اليائسة التي يتركها المجدُ البَشريّ الكاذب في القلب، ذلك المجدُ الذي لا يقدر إلا على إشباع أولئك الذين ليس لديهِم مشاعر نبيلة. كانت إيڤا لاڤاليير تفكر في إلقاء نفسِها في النهر حتّى تنتهي إلى الأبد من تلك الحياة التي لا تَـعرف كيف تَمنحها ما تحتاج إليه. وصاحت في البَحَّار الذي أوقـفَـها وهي خارجةٌ عن نفسِها:

  1. اُتركني في سلام! أنا أتعس امرأة في هذا العالم! أنا يائسة! ثمّ في وقتٍ لاحق، عندما أَبرزَت نذورَها الرُّهبانية بعد فترة المبتدئات في أحدِ الأديِـرة، قالت للصَّحفيين الّذين كانوا يريدون إجراء مقابلة معها لنشر التفاصيل المؤثرة لذلك التغيير الاستثنائي:
  2. قولوا للجميع إنني أسعد امرأة في العالم!

أحيانا هذا الازدراء للعالم يقترب من الكَراهية. إنّه شعورٌ كان لدى يسوع نفسِه، لأنه لعن العالم ولم يُـرِد أن يصلي من أجله. دعونا نلاحظ أنها ليست كراهية تُجاهَ البشر بل تُجاه طريقةِ التفكير والتصرف والتقدير للأشياء التي لدى أولئك الذين يعيشون وَفـقًا لفلسفةِ العالم.

 

7. الانجذاب للصلاة

إنّها رغبة لا توصف في الشعور بالاتحاد بالله، والتحدث معه، والصلاة. الرغبة في البَقاء بِمُفردِهِ – وقد أقول مَخفِـيًّا -، وفي أن يُحب ويفكّـر ويصلّي. يَشعر الشابّ بأنه يرغب في الصلاة، ويغلب عليه الخوف من عدم كفايةِ الصلاة، وفي الصلاة يجد الهدوء والفرح لأنه يصلي أو لأنه قد صلّى.

أَلَـم تَدخلوا كنيسةً أبدًا عند غروبِ الشمس؟ اُدخلوا ولن يكون غريبًا أن ترَوا رَجُلًا شابًّا في زاويةٍ ما يصلي.

تَصيرُ الحياة الأفخارستية كثيفةً بطريقة شِبه طبيعية. من بينِ الشباب الذين قد ساعَدْتُهم في دعوتِهم، يمكنني أن أؤكد أنه لم يكن هناك أيٌّ منهم لم يكن يتناول يوميًّا. ومع ذلك، ليس من الضروري أن يتناول كل يوم لنتمكن من القول إن الشابَّ مُنجَذِب إلى الصلاة. عندما يُرى الانتقال من المناولة الشهرية إلى الأسبوعية، أو من النقص شبهِ الكامل للصلاة إلى الاقتناع أو الحاجة إلى الصلاة كثيرًا، يُمكن أن يكون ذلك علامةً على أن الله يريد أن يُسمَع صوتُه.

ذات يوم أجريتُ محادثة مع شابٍّ يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا، وكان أكثر ما لفت انتباهي هو قلقُه، لأنه قال إنه يصلي قليلًا إأنه لا يعرف كيف يصلي. كانت هذه مشكلتَه. بعد ثلاثة أشهر كان بالفعل لديهِ دعوة.

قال لي آخَـرُ إنه يتلو ستَّ مَسبحاتٍ في اليوم.

– وكيف يمكنك أن تفعل ذلك؟ أثناءَ حِصصِ الدّروس؟

-لا! في الشارع، وأثناء العودة إلى المنزل، وفي الطابور، وفي انتظار المعلِّم، ثم أقول بهدوء اثنتين في المنزل أو في الكنيسة.

من الواضح أنّ الدعوة كانت بالفعل مِثالًا أعلى رائعًا في أُفُـق نفسِهِ.

غالبًا ما يكون كلُّ هذا مصحوبًا بتذوّق الصلاة وبالتّعزية الروحية. فالصبي الذي يشعر بهذه الأفراح لن يذهب إلى أيِّ مكان آخَر ليبحث عن سعادتِه؛ لا يحتاج إلى أكثر من ذلك لِـيفهم أن الحياة الرُّهبانية لا بدّ أنها حياةُ الفردوس والسعادة الحقيقية.

 

8. الرَّغبة في التألّم

يبدو لنا من الظُّلم أن نعرف أن يسوع تألم من أجلنا بينما نستمتع نحن بالعديد من وسائل الراحة الصغيرة. إن التفكير في الكثير من الخطايا والكثير من الجُحود تُجاهَ الله من الناس يترك الغالبية – وهذا صحيح – غيرَ مبالين؛ لكنه بالتّأكيد يجرح آخَـرين في الصّميم ويجعلهم يشعرون بواجب التألّم والتضحية بأنفسِهم لأجل التّشبُّه بيسوع ولإصلاح ما يفعُله الكثيرون من الخَطأة.

في كثيرٍ من الأحيان لا يفكرون في الأسباب. يدفعهم حبُّـهم لله للقيام بذلك.

من المُحتمَـل أنه تائب مُخلِـص. في بعض الأحيان، بدلاً من ذلك، يكون الأمرُ أشبه باحتياج للقلب الذي يفهم عدم إمكان حبِّ الله بِـدون ألـم. عندها تُرى هذه الأنفس وهي تَستسلم للتضحية، وتتخلى طَواعيةً عن الكثير من الأوهام، وحتى عن التسليات المشروعة، وتأتي بأدواتٍ للتّـكفير لجَعلِ الجسد يتألّم، وبالتالي تَجدُ الفرحَ والسّلام للنفس، وتشعر بالإحساس بأنها تبدأ بجِـدّيّة في حبِّ الله.

لذلك تَـنمو لديهِم التَّقوى تُجاهَ القلب المقدَّس، التي هي تقوى حُـبِّ وتعويض، فهُم معجَـبون بالرُّهبان لأنهم يعيشون حياةَ التضحية ويمارسون نَـدمَ القلبِ الذي يؤدي إلى الإماتة، لا فقط داخليًا بل خارجيًا كذلك.

لقد عرفتُ شابّـين كانا خلالَ الفسحة، بعد الصلاة قليلاً، يبحثان عن مكانٍ خَـفيّ و… كانا يمشيان على ركبتيهما على الحجارة… كي يتألّما. كان صبيٌّ يبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا يَـضع لوحًا على مرتبةٍ مُـدّعيًا أنه هكذا ينام براحةٍ أكبر؛ وآخَـر – مثل القديس لويس – كان يُقـلِـق نومَه بالحَـصى العالقة بين المِلاءات. ورأيت آخَـرين ينامون على الأرض، وكم من الآخَـرين سألوني – وليس عبثًا – عن أدواتٍ لِلتّـكـفير!

هذه واحدة من أكثر علامات الدعوة صَلابةً وتأكيدًا؛ ومن هذه الصفحات أَوَدّ أن أقول للجميع إنه يجب علينا تقديم الحياة الرُّهبانية كما هي حـقًّا، أي حياةٍ لِلتّخلّي والتضحية. لا فائدة من محاولة التخفيف مِن هذا الجانب غيرِ المريح من الحياة الرُّهبانية. وبِالإضافة إلى ذلك، فلن يكون الأمر صادقًا إنْ أَخـفَـينا ما هو الأكثر جاذبيةً في الحياة الرُّهبانية.

قبل أيامٍ قليلة فقط، قدَّمَت إمرأةٌ شابّة، أُرشِـدُها روحيًّا، نفسَها إلى راهبات الفرنسيسكان مُرسَلات مريم ليتم قَـبولُها في رَهبـنَـتِـهِـنَّ. بالعناية الإلهية الأولى، بدأت الأخوات في تـثـبـيـط عزيمتِـها بإخبارِها أن قواعدَهُـنَّ صارمةٌ وصعبةٌ للغاية، وأن قليلاتٍ مِنهُـن كُـنَّ قادراتٍ على الصّمود وأنّ مُعظمَهنَّ اضطرَرن إلى العودة إلى الوراء. في البداية كانت قَلِقةً نوعًا ما، لكنها أرادت بعد ذلك الذَّهاب إلى دير المبتدِئات في غْـرُتّـاتِـرتا لترى وتتذوق ما هو الواقع. استقبلَـتها الأمّ معلمةُ المبتدئات قائلةً: «مستحيل! قاعدتُـنا صعبة جدًّا. لن تكوني قادرةً على التحمُّل!».

لقد امتدحتُ طريقة عمل هؤلاء الراهبات اللواتي أثبَـتـنَ جِـدِّيَّـتَـهُـنَّ في تَعامُـلِهِنَّ مع المترشِّحات. ومع ذلك، فقد كان لذلك تأثير عكسي على الشابّة، كما قالت لي:

«إذا كان عليَّ أن أتألّم، فهذا أفضل بكثير»، فأنا لا أريد أن أُصبِح راهبة لأكون مُـرفَّـهـة، لكن لكي أَصلِـب نفسي مع يسوع.

فالحقيقة أنّ مَن لدَيهِ دعوة حقيقــيّة لا يَخشى التضحية؛ من ناحية أخرى، إذا طلب شابٌّ ما اعتناقَ الحياة الرُّهبانية وظل مرتبكًا من فكرة أنه سيَضطر إلى المعاناة والتخلي عن كل شيء، فمِن المستحسَن المُضيُّ ببطءٍ معه وجعلُه ينتظر لفترة أطول قليلاً، وطالما لم يبدأ بعدُ في الرغبة في المعاناة، فَلا يَـكُـنْ لَـدَينا إلّا حماسٌ قليلٌ لِـدعوتِه.

الحياة الرهبانية هي فِـردَوس، لكنَّ ذلك لأنها صَلْـبٌ مستمر: فهي ليست فرحًا بحسب العالم، بل هي نَـقيض فرحِ العالم.

لا نريد دعوات ‹ماء الورد›، من شبابٍ يريدون أن يقدّموا أنفسهم لله… إلى حدٍّ ما فقط. فلْـيَتراجعوا عن ذلك مُـبـكِّـرًا! تحتاج الحياة الرهبانية إلى أبطال، وفقط مَن يريدون أن يتألموا ويتبعوا مَـلِـكًا مُتـوَّجًا بالأشواك ومُغطًّى بالبُصاق، فمِثلُ أولئِـكَ قد يُصبِح راهبًا حقيقيًّا، وبذلك يكون قديسًا وسعيدًا ومَدعوًّا من الله.

 

9. روحُ السَّخاء تُجاهَ الله

إذا كان لَـدي عدمُ الرِّضى أبدًا بما يَـفعلُه من أجلِ الله، ولا يَـقـول أبدًا ‹هذا يكفي›، ويرغب دائمًا في القيام بِالمزيد؛ إذا بدأ يشعر ببعض القلق، وبِنَـفاد صبرٍ مقدس لأجل فعلِ المزيد من أجلِ الله دائمًا؛ فإننا أمام حبٍّ حقيقيٍّ ليسوع، وأمام الفَهم العمليّ لِـما فعله من أجلنا، ولِـبُطلان وضُعف جهودِنا في أن نحبه وأن نرد له لُطفَه الرائع وتَـفَضُّلَـه علينا.

إن الرغبة في حب يسوع إلى درجة الجنون هذه، وهذا التعَذُّب المستمر لأنهم لا يُحبون الله كما يريدون، وهذه الرغبة في فعل مَن يعرف ماذا ليُظهروا حُبَّهُم، فهذا يَدفع هذه النفوس إلى بطولاتٍ حقيقية في السَّخاء. إن حبَّ الله هو لهم فرحٌ وعذابٌ في نفس الوقت. فرحٌ لأن لديهم هذا الحبّ حقًا، وعذابٌ لأنه ليس كما يريدُونه وبِالكَـمِّ الذي يريدونه.

حالة تَصوفية؟ ليس بالضبط.

لقد رأيتُ نفوسًا كهذه وتحدثتُ إليهم عن الدعوة. لم يفكر معظمُهم أبدًا فيها، لكنَّ اقتراحي بدا طبيعيًّا جدًّا بالنسبة لهم لدرجة أنهم لم يشُـكّـوا في أن الله كان يدعوهم ليكونوا مِلكًا له كُـلّـيًّا وإلى الأبد.

 

10. الرّعب من الخطيئة

إنه خوفٌ صِحّيّ من الخطيئة، والتي يَعتبرونها الشرَّ الحقيقي الوحيد للنفس. بينما يشاهدون الأصدقاء والمعارف وهم يَغرَقون في الفساد وفي الدّمار الروحي، فإنهم يتوقون إلى وسيلة من شأنِها أن تحميهم من كثرة هذه المخاطر. إنهم يبحثون عن طريقة حياة تكون فيها الخطيئة مستحيلة.

 

11. الرغبة في تكريس الحياة من أجل توبة أو خلاص شخصٍ عزيز

مثلَ ابنةِ الملك لويس الخامس عشر، التي أصبحت راهبة لإنقاذ نفسِ والدها، والذي عاش حياةً قليلةَ الجدارة.

تعرّفتُ على شابٍّ ذي مشاعر حنونة ورقيقة قدّم دعوتَه لأجل الخلاص الأبدي لوالدته، وبعد ثلاثة أشهرٍ قـرّر شقيقُه أن يُصبح راهبًا وقدّم «اختيارَه» لخلاص والدِهِ. اليومَ هما الاثنان راهبان؛ طارت الأم إلى السّماء والأب يعيش حياةً مسيحية حقيقية.

 

12. رِقّـةُ الضمير

هناك نفوسٌ حساسة جدًّا للَمسةِ النعمة وللحياة الروحية، وهي تَتوخَّى الحَذر حتى من أدنى الزَّلّات. إن مُجرّدَ خوفِـها من الإساءة إلى يسوع، الذي تحبه كثيرًا، يَـدفعُهم إلى القيام بِأيِّ تَـخَـلٍّ. إنها نُفوسٌ حسّاسة مُخلِصة ويَستدرِكون أصغرَ الزّلّات بمَهارة مدهِشة. إنها نفوسٌ مَدعـوّة إلى الكمال، ومستعدة لأَسمى التَّـطلُّـعات.

13. الخوف من وجودِ الدّعوة

أحيانًا يوجَد خوفٌ من أن يكون لديهِم دعوة، فيستبعِدون كلَّ الأفكار حول هذا الأمر، والتي تعود بإصرار، فيُـصلّون من أجل أَلّا تَكون لديهم. «أتمنى أن يُبعِدَ الله مثل هذه الدعوة عني، والتي من شأنها أن تُـدمّرَ العديد من القِلاع التي قُـمـتُ بِتصميمِها والاعتزاز بها». هناك شكٌّ مستمرّ في أن هذا أو ذاك يريد أن «يصطادَني» للحياة الرُّهبانية، ويتم تجنُّـب خطرِ الذَّهاب مع الرُّهبان أو مع الشباب الذين لديهم دعوة، خوفًا من أن تقع المحادثة حول هذا الأمر الخطير؛ ويخافون الرّياضات الروحية، ويخافون كذلك أن يَكونوا طيّـبـين أكثر من اللازم وممارِسين لِلأسرار المقدسة، ومع ذلك لا يريدون أن يَصدُر عنهم شرٌّ لأن نفوسَهم مستقيمة مع الله.

كلُّ هذا – كما يقول الأب دُويْـلْ[2] – هو أحيانًا علامة عن دعوة حقيقية.

يُمكن للشيطان – وهو ذكي جدًّا – أن يتوقّع احتمالات أنهم، إذا أصبحوا كهنة أو مرسَلين، فإنهم سوف يفعلون الكثير من الخير، ولهذا السبب يحاول وضعَ تلك المخاوف التي لا أساسَ لها في قلوبهم حتى يُـبعِدَهم عن الطريق الذي سيَـكون خلاصًا وتقديسًا لهم وخلاصًا لِنفوسٍ كثيرة.

والأمثلة على الدعوات التي بدأت في هذا المجال، بالاتّجاه العكسيّ وبِـتعمُّد الهروب منها، هي كثيرة.

يُقرأ عن الأب ميغِـل أَغُـستـيـن پْـرو، من الرَّهبنة اليسوعيّة، أنه لم يَـكن يَـحتمل رؤية اليسوعيين بأيِّ شكل من الأشكال. لقد كان غاضبًا منهم لأنهم، لِـكونِـهم مرشدين روحيين لأخواته، وجَّـهوهُـنَّ نحو دير الحبيسات. استولى عليه حزنٌ شديد وهرب إلى الغابة البعيدة؛ لم يكن يريد أن يرى أحدًا.

بحثَـت أمُّه عنه، ووجدته، وقادَته إلى المنزل وأقنعَـته بالقيام بالتّمارين الروحية… مع اليسوعيين المَكروهين.

لقد ذهب… وبِه خـوفٌ من أن يَـجد نفسَه أمام الدّعوة. إنّ ذلك لَـيكون خِـزيًا كبيرًا له. وقد  دعاه الله هو تَحديدًا، ولِحُسن حظِّه أنه اتّـبع صوتَ الرب. وصار كاهنًا وشهيدًا، مجدًا لِلمِكسيك، ولِلرَّهبنة اليسوعيّة ولِلكنيسة.

 

14. الغَـيرة على النفوس

إن الحديث عن الرسالات البعيدة يُسحِرنا ويُحرّك مشاعرنا. وإن التّفكير في ملايين النفوس الذين ما زالوا لا يعرفون يسوع يجعلنا نبكي. وفي حين يظلُّ الآخَرون باردين، كما لو كان شيئًا لا يمَسُّهم، نَـشعر نحن بتَـداعيات شديدة. يبدو لنا أن لدينا التزاماتٍ تُجاهَ تلك النفوس، وأن علينا أن نفعل شيئًا لمساعدتِهم، وأنّه لا يمكننا أن نقفَ بهدوء مَكتوفي الأيدي، ونَكـتـفـي بِكلمات التعاطف العقيمة.

أحيانًا يبدو هذا الفِكر كما لو أنه يَـلِـحُّ علينا ويُـحْـضِر لنا في مُخيِّـلتِـنا بطريقةٍ حيَّة رؤيةَ نهرٍ من النفوس التائهة في طريقِها، وهي تَـمُـدُّ أيديَها إلينا طالبةً المساعدة بتَضرّع.

صورة يسوعَ المصلوب الذي يصرخ: أنا عطشان! إنه لَـيُحزِن نفوسَنا، ونفهم المعنى العميق لِـتَـأوُّهِ المخلِّص: «ما فائدة دمي؟»[3].

غالبًا ما توجَد هذه المشاعر الإيـثاريّة، وهي زهرةُ المحبة المسيحية، في النفوس الشابّة، وهي علامة واضحة على أن الله يدعو إلى المَـثـلِ الأعلى المُـتمثِّـل في الأُبوّة الروحية، وهي التعبير الأكثر أصالةً عن المحبة وعن الحياة المكرسة لِـخيرِ الآخَـرين.

 

 

15. الهُروب من الأنانيّة

الشّعور بالأُخوة العالمية، وحبُّ الفقراء. مَن يَسعون إلى المساعدة بالصَّدقات، ويدافعون عن أضعفِ الرِّفاق الذين يتعرضون للمُضايَـقات بشكلٍ ظالم من قِـبَـل غـيرِ المؤَدَّبين.

 

 16. الشُّعور بالغِـيرة المُقدَّسة من الرُّهبان

عندما نراهم يَمرّون، تأتي إلينا أُمنـية خَـفـيّة: «سُعداء! آه لو كنتُ مِـثلَهم! لا بدَّ أنّهم في غايةِ السّعادة!»

 

17. الهُـروب من الرَّداءة

الروحُ المسيحية القِـتالية: على استعداد دائمًا للدِّفاع عن إيمانِهم. التَّـلـذُّذ من شرف كونِهم جنودًا للمسيح. والرغبة في تقديم أشياءَ عظيمة ليسوع.

(*) ولا يزال بإمكانِـنا مواصَلة هذه القائمة، لكنْ هذا يكفي في الوقت الحالي.

بقولِنا إنّ هذه «علاماتٌ للدّعوة» لا أعني أنه عند امتلاك أيِّ من هذه القَـناعات أو الرّغبات، فإن المَـرءَ لديه كلُّ ما هو مطلوب للتمكّن من استنتاج وجود دعوةٍ حقيقية؛ لكنني أعني فقط أنّ بعضًا من هذه الـ«علامات» هي بالفعل مؤشِّـرٌ بالنسبة لي – أنا ككاهنٍ أو مُـرَبٍّ – لكي أفكّـر – بشيءٍ من اليقين – في أنّ الله قد وضع عينَـيه على نفسِ ذلك الشابّ ليُعطيَه الدّعوة، التي، كي تكون حقيقيةً وصادقةً، لا بدَّ أن يكون لديها عَـناصر أخرى، كما سنقول لاحقًا.

[1]  الأب وِلـيام دُويْـلْ، من الرّهبنة اليسوعيّة.، دعوات، ص 3 .

[2]  الدّعوات، ص 7 .

[3]  «Quae utilitas in sanguine meo»